خلق الله الانسان بطبيعة اجتماعية تتطلب منه تكوين علاقات اجتماعية عديدة فمنها دائرة الأسرة ودائرة الأصدقاء والجيران وزملاء العمل.. وإلى آخره تتوسع هذه العلاقات تضيق بحسب وضع الأشخاص ومكانتهم في المجتمع، وهذا ما يعد أمر إيجابي في حياة الانسان إلا ان هذا الأمر قد ينعكس بصورة سلبية على حياته وذلك في حالة تعرضه لموقف يضر مصالحه وحقوقه التي تتعارض مع شخص آخر تربطه به علاقة اجتماعية يتعذر معها أخذ دليل أو استكمال الإجراءات النظامية التي يثبت بها حقه ونستعرض أكثر الحالات انتشارًا هي:

اثبات الحق بعد التعرض لإعتداء جسدي

قد يغفل عامة الناس عن وسيلة إثبات حقوقهم بعد تعرضهم للاعتداء الجسدي لا سيما إذا كان هذا الاعتداء صادر عن أحد الأقارب او دائرة المعارف، ويكتفي المعتدى عليه بأخذ تقرير طبي والذي بدوره يعطي شعور بالطمأنينة وأصبح بإمكانه أخذ حقه من المعتدي بشكلاً قانونياً بمجرد رفع دعوى وتقديم التقرير الطبي كدليل على الاعتداء الى صاحب الفضيلة ناظر الدعوى وسيحكم بناءً عليه لصالحه

إلا ان ذلك بحسب ما جاء في القانون لايمكن أن يعتد به وحده كدليل قطعي على إدانة المعتدي، حيث أن التقرير الطبي يفيد بتعرض المصاب للإصابة المذكورة في التقرير كـ (رضوض في الجسم او كسور او كدمات وغيرها من الإصابات) إلا أنه لا يفيد بأن المدعى عليه هو المتسبب بالإصابة، لا سيما أن هذه ليست من اختصاص الطبيب المعالج فعمله يتوقف عند كتابة التقرير للحالة الماثلة أمامه ووصفها وصفًا طبيًا فقط لا غير، اذًا كيف يمكن لصاحب الحق اثبات حقه؟

في حالة التعرض للاعتداء فيجب على المعتدى عليه الذهاب للمستشفى لتلقي العلاج اللازم و اخذ تقرير طبي يصف حالته, ثم  يتوجه لأقرب مركز شرطة و يقدم بلاغ بالحادثة و بعد قيام مركز الشرطة بالإجراءات النظامية و تحرير المحضر, ويحق للمعتدى عليه ان يتقدم بطلب حقه وذلك برفع دعوى لدى المحكمة الجزائية  مستندًا فيها على التقرير الطبي بالإضافة الى المحضر الصادر من مركز الشرطة, و ان لم يكن هناك إصابة جسدية كالتعرض اللفظي او الاعتداء الجسدي السطحي يمكن الاكتفاء بمحضر الشرطة ليثبت بذلك تعرضه للضرر, وعليه فمن الممكن ان يحكم ناظر الدعوى لصالحه اذا اتضح له صدق دعواه.

اثبات الحقوق المالية

قد يتحرج البعض من المطالبة بما يثبت حقه من أحد الأطراف التي تربطه به علاقة اجتماعية وقد ينبع هذا الإحساس من باب الثقة بالطرف الآخر فمن المحرج ان يطلب الجار من جاره إقرار باستلام مبلغ مالي كقرض وانه ملتزم بإعادته له في الموعد المحدد، مبررًا بأن جاره لجأ إليه في ضيقة مالية ومن باب الثقة به لم يحرر أي ورقة بينهما, لكن ماذا لو طالت المدة ولم يقم الجار بإعادة المال، وأصبح صاحب المال في حاجة ماسة له فكيف يحصل على حقه المشروع؟

الجواب المتبادر للذهن هو حل المشكلة وديًا وإدخال من له مكانة بين الجارين , وفي حالة عدم التزام المدين بدفع المبلغ فليس أمام الدائن الا اللجوء الى المحكمة المختصة ويقدم دعوى ضد جاره يطلب فيه استرداد المبلغ كاملاً.

هذا الجواب صحيح الا ان اثبات المبلغ لا يكون مسموح بجميع طرق الاثبات في حالات محددة حيث نص نظام الإثبات السعودي على ما يلي:

المادة السادسة والستون من نظام الاثبات

يجب أن يثبت بالكتابة كل تصرف تزيد قيمته على (مئة ألف ريال أو ما يعادلها) أو كان غير محدد القيمة.

لا تقبل شهادة الشهود في إثبات وجود أو انقضاء التصرفات الواردة في الفقرة (1) من هذه المادة، ما لم يوجد اتفاق أو نص يقضي بغير ذلك.

ويفيد نص هذه المادة على أن الوسيلة الوحيدة لإثبات المطالبة بمبلغ مالي تزيد قيمته على مئة ألف ريال هي الكتابة بين الطرفين والتي توضح فيها ان المدين اخذ المبلغ المطالب فيه من الدائن بنية إرجاعها إليه او مثلا شراء بضاعة ما او تقديم خدمة معينة، وشرط الكتابة هنا ينطبق على اثبات الوفاء بالدين كذلك فيجب على المدين اثبات سداد الدين بالكتابة كأخذ إيصال او فاتورة سداد لكي يضمن حقه من جور الدائن.

لكن هل شرط الكتابة شرط مطلق ولا يجوز اثبات الدين الا بالكتابة؟

استثنت المادة الثامنة والستون من نظام الإثبات بعض الحالات التي يجوز فيها الاثبات بالشهادة وهي:

إذا وجد مانع مادي أو أدبي يحول دون الحصول على دليل كتابي، ويعد من الموانع المادية عدم وجود من يستطيع الكتابة، أو أن يكون طالب الإثبات شخصاً ثالثاً لم يكن طرفاً في العقد، ويعد من الموانع الأدبية رابطة الزوجية، وصلة القرابة والمصاهرة حتى الدرجة الرابعة.

إذا ثبت أن المدعي فقد دليله الكتابي بسبب لا يد له فيه.

فقد استثنت المادة هنا الموانع التي تحول دون حيازة المدعي للمستند المكتوب كعدم قدرة الطرفين على الكتابة.

او اتفاق الطرفين على طريقة أخرى للإثبات غير الكتابة.

نلاحظ هنا ان المنظم اخذ بعين اعتبار الظروف التي لا يمكن معها وجود المستند الكتابي كضياع المستند المكتوب وهذا ما يراعى فيه مبادئ العدالة والانصاف فيجب هنا اثبات الحق وانصافه فضياع المستند أمر وارد ففي حالة الانتقال من مدينة إلى أخرى او تغيير منطقة العمل فقد يفقد العديد من المستندات الا ان المنظم اشترط ان يكون فقد الدليل بسبب لا يد له فيه، أي انه لم يتعمد إخفاء الدليل أو لم يتخذ الحيطة الواجبة لحفظ المستندات

كذلك راعى المنظم الروابط الأسرية واعطاها سمة خاصة وذلك لطبيعة العلاقة الاسرية التي تتميز بالخصوصية فلا يتصور ان يكتب أخ دين له على أخيه ويجعله يمضي عليه أو ان تكتب الزوجة ورقة على زوجها وإن كان لا عيب في ذلك فالورقة ماهي الا اثبات لوجود الدين ويعتبر وسيلة تحمي حقوق الطرفين.

وأوضحت المادة المذكورة أعلاه طريقة الإثبات في الحالات المستثناة وهي بشهادة الشهود

ويشترط في الشاهد ان يكون عالمًا بتفاصيل المديونية (شهدها) وغير منقطع عنها (يعلم عن مستحدثاتها)

وقد سبقت الشريعة الإسلامية التشريعات البشرية في ذلك وانزلت أطول سورة في القرآن الكريم مفصلة في أمر الدين وهي الآية رقم 282 في سورة البقرة

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا…. ٢٨٢

ونظرًا لكون معظم المعاملات المالية اليوم تتم عبر الوسائل الإلكترونية والحسابات البنكية فيتبادر للذهن مباشرة ان الحوالة البنكية تثبت الحق ويستطيع من خلاله ان يثبت حقه مباشرة بعد اطلاع القاضي عليه، وفي ذات الوقت لا تضعه في حرج طلب كتابة الدين لكن هل تعتبر الحوالة البنكية دليل كامل لإثبات للدين؟

 لا شك أن الحوالة البنكية تفيد خروج المال من حساب الدائن ووصولها لحساب المدين، لكنها لا تفيد بوجود دين فـ كشف الحساب لا يذكر فيه سبب الحوالة حتى وان تم كتابة ملاحظة تفيد بسبب الحوالة فهذه تعد قرينة فقط ولا يحكم بها القاضي مباشرة، لماذا؟

أصحاب الفضيلة من القضاة يعملون بمبدأ المساواة بين الأطراف ولا يمكن ان يميل أحدهم لأحد الخصوم و يحكم له مباشرة فيجب ان يسمع من كلا الطرفين، ففي حال تقديم المدعي لكشف حساب ويفيد بخروج مبلغ و قدره فلا بد ان يقابل ذلك إقرار من المدعى عليه بصحة ما يدعيه وان المبلغ دخل الى حسابه كديّن، فقد يكون في الأصل هذا المبلغ سداد لدين سابق او مقابل خدمة قدمها المدعى عليه للمدعي، او أرباح من مشروع مشترك أو لأي سبب آخر لذا لا تعد الحوالة البنكية الا قرينة.. لذا يجب ان يرافق هذه الحوالة مستند مكتوب آخر يوضح سبب الحوالة.

مما سبق ذكره نستشعر عظيم فضل الله أولاً ثم نعمة الاستظلال بنظام منصف فقد مّن الله علينا بأن نكون تحت ظل نظام عادل يسعى لإحقاق الحق دائمًا لمن هم داخل هذا الوطن العظيم، و لا يطلب مننا الا ان نسعى لحماية حقوقنا بالطرق النظامية البسيطة لنتجنب ضياعها بسبب عدم القدرة على اثباتها وقد سهلت لنا الوسيلة لذلك من خلال اقرارات كتابة العدل فمن خلالها يمكن لأي شخص توثيق جملة من المعاملات كـ ( توثيق الدين وسداده, و استلام المبلغ المالي و التنازل عنه , وتوثيق الكفالة وانهاؤها, و التنازل عن الإرث, و استلام المنقول و التنازل عنه) كل هذه الخدمات التي تقدمها وزارة العدل الكترونية و لا تحمل المستفيد عناء الذهاب الى كتابة العدل بنفسه,  لذا يجب علينا بناء ثقافة جديدة بعيدة عن الاحراج من اثبات الحقوق وأن كتابة هذه الورقة فقط لحماية الطرفين ولا تؤثر على علاقة الأطراف فيما بينهم و لا تعني عدم الثقة مطلقًا.